فصل: من فوائد ابن عطية في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولأجل هذا كان تحريم نكاح الأمهات هو الأشد المقدم في الآية، ويليه تحريم البنات ثم الأخوات ثم العمات والخالات إلخ.
وقد أودع الله في الإنسان فطرة نقية تحجزه عن التفكير في محارمه فضلًا عن حب الاستمتاع بهن، ولولا ما عهد في الإنسان من الشذوذ والجناية على الفطرة، والعبث بها لكان للمرء أن يتعجب من تحريم الأمهات والبنات لأن هذا من قبيل المستحيلات في نظر الإنسان العاقل، سليم الفطرة والتفكير.
ثم إن هناك حكمة جسدية حيوية عظيمة، وهي أن تزوج الأقارب بعضهم ببعض يكون سببًا لضعف النسل، فإذا تسلسلت واستمرت يتسلسل الضعف والضوى (النحافة) حتى ينقرض النسل، وهذا ما أشار إليه الإمام الغزالي رحمه الله في كتابه الإحياء حيث قال: إنّ من الخصال التي تطلب مراعاتها في المرأة أن لا تكون من القرابة القريبة، فإن الولد يُخْلق ضاويًا أي (نحيفًا) وعلّل ذلك بأن الشهوة إنما تنبعث بقوة الإحسان بالنظر أو اللمس، وإنما يقوى الإحساس بالأمر الغريب الجديد، فأما المعهود فإنه يضعف الحسّ ولا تنبعث به الشهوة وهو تعليل دقيق أقره العلم الحديث.
وأمّا المحرمات بالمصاهرة فإن الله عز وجل أكرم البشرية بهذه الرابطة الإنسانية، وامتنّ على الناس بقرابة الصهر، التي تجمع بين النفوس المتباعدة المتنافرة بروابط الألفة والمحبة {وَهُوَ الذي خَلَقَ مِنَ الماء بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} [الفرقان: 54] فإذا تزوج الرجل من عشيرة صار كأحد أفرادها، فينبغي أن تكون أم زوجته بمنزلة أمه في الاحترام، وبنتها التي في حجره كبنته من صلبه، وكذلك ينبغي أن تكون زوجة ابنه بمنزلة ابنته وهكذا.
ومن القبح جدًا أن تكون البنت ضرة لأمها، والابن طامعًا في زوجة أبيه، فإن ذلك ينافي حكمة المصاهرة، ويكون سبب فساد العشيرة.
وأما المحرمات بالرضاع فإن الحكمة فيهن ظاهرة، وهي أن من رضع من امرأة كان بعض بدنه جزءًا منها، لأن تكوّن من لبنها فصارت في هذا كأمه التي ولدته، وصار أولادها إخوة له لأن لتكوين أبدانهم أصلًا واحدًا هو ذلك اللبن والله تعالى أعلم. اهـ.

.سؤال وجوابه:

فإن قال قائل: وكيف يكون معنيًّا بالاستثناء من قوله: {والمحصنات من النساء}، ما وراء الأربع، من الخمس إلى ما فوقهن بالنكاح، والمنكوحات به غير مملوكات؟.
قيل له: إن الله تعالى لم يخصّ بقوله: {إلا ما ملكت أيمانكم}، المملوكات الرقابَ، دون المملوك عليها بعقد النكاح أمرُها، بل عمَّ بقوله: {إلا ما ملكت أيمانكم}، كلا المعنيين أعني ملك الرقبة، وملك الاستمتاع بالنكاح لأن جميع ذلك ملكته أيماننا. أما هذه فملك استمتاع، وأما هذه فملك استخدام واستمتاع وتصريف فيما أبيح لمالكها منها. ومن ادَّعى أن الله تبارك وتعالى عني بقوله: {والمحصنات من النساء} محصنة وغير محصنة سوى من ذكرنا أولا بالاستثناء بقوله: {إلا ما ملكت أيمانكم}، بعضَ أملاك أيماننا دون بعض غيرَ الذي دللنا على أنه غير معنيٍّ به سئل البرهان على دعواه من أصل أو نظير. فلن يقول في ذلك قولا إلا أُلزم في الآخر مثله.
فإن اعتلّ معتلُّ منهم بحديث أبي سعيد الخدري أن هذه الآية نزلت في سبايا أوطاس.
قيل له: إن سبايا أوْطاس لم يُوطأن بالملك والسبِّاء دون الإسلام. وذلك أنهن كن مشركاتٍ من عَبَدة الأوثان، وقد قامت الحجة بأن نساء عبدة الأوثان لا يحللن بالملك دون الإسلام، وأنهن إذا أسلمن فرَّق الإسلام بينهن وبين الأزواج، سبايا كنَّ أو مهاجرات. غير أنّهن إذا كُن سبايا، حللنَ إذا هُنَّ أسلمنَ بالاستبراء. فلا حجة لمحتجّ في أن المحصنات اللاتي عناهن بقوله: {والمحصنات من النساء}، ذوات الأزواج من السبايا دون غيرهن، بخبر أبي سعيد الخدري أنّ ذلك نزل في سبايا أوطاس. لأنه وإن كان فيهن نزل، فلم ينزل في إباحة وطئهن بالسبِّاء خاصة، دون غيره من المعاني التي ذكرنا. مع أنّ الآية تنزل في معنًى، فتعمُّ ما نزلت به فيه وغيرَه، فيلزم حكمها جميع ما عمَّته، لما قد بيَّنا من القول في العموم والخصوص في كتابنا كتاب البيان عن أصول الأحكام. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24)}.
إذا حافظت الحدود، وراعيت العهود، وحصل التراضي بين النساء بحكم الشرع فما لا يكون فيه للخلق خصيمة، ولا من الحق سبحانه من تبِعة، فذلك مباحٌ طلقٌ. اهـ.

.من فوائد السمرقندي في الآية:

قال رحمه الله:
{والمحصنات مِنَ النساء} قال في رواية الكلبي وفي رواية الضحاك، يعني ذوات الأزواج حرام عليكم {إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أيمانكم} من السبايا، فإذا ملك الرجل امرأة لها زوج في دار الحرب واستبرأ رحمها بحيضة، فهي حلال له.
وهذا موافق لما روي عن أبي سعيد الخدري أن المسلمين أصابوا يوم أوطاس سبايا لهن أزواج من المشركين، فتأثم المسلمون منهن وقالوا: لهن أزواج، فأنزل الله تعالى: {والمحصنات مِنَ النساء إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أيمانكم} يقول: ما أفاء الله عليكم من ذلك، وإن كان لهن أزواج من المشركين، فلا بأس بأن يأتيها الرجل إذا استبرأ رحمها.
وقال في رواية مقاتل: {والمحصنات مِنَ النساء} يعني كل امرأة ليست تحتكم، فهي حرام عليكم.
ثم استثنى من المحصنات فقال: {إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أيمانكم} يعني إلا ما قد تزوجتم من النساء مثنى وثلاث ورباع.
قوله: {كتاب الله عَلَيْكُمْ} أي هذا ما حرم عليكم في الكتاب، ويقال: {كتاب الله عَلَيْكُمْ} معناه: هذا الذي يقرأ عليكم هو كتاب الله تعالى، فاتبعوه ولا تخالفوه.
وقال الزجاج: {كتاب الله عَلَيْكُمْ} منصوب على التأكيد، محمول على المعنى، لأن معناه حرمت عليكم أمهاتكم، كتب الله عليكم هذا كتابًا.
ويجوز أن يكون منصوبًا على جهة الأمر، كأنه قال: الزموا كتاب الله فيكون عليكم مفسرًا له.
ثم قال تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ} يقول: رخص لكم ما سوى ذلكم، فالله تعالى قد ذكر ما حرم في هذه الآية من قوله: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ} أربع عشرة من المحرمات، سبع بالنسب وسبع بالسبب.
ثم بيّن المحللات فقال: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ} يعني ما سوى هذه الأربع عشرة التي ذكر في هذه الآية، فلو كان الأمر على ظاهر هذه الآية، لكان يجوز ما سوى ذلك؛ إلا أنه قد جاء الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ» وقال: «لا تُنْكَحُ المَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلا عَلَى خَالَتِها» فوجب اتباعه لأن الله تعالى قال: {مَّا أَفَاءَ الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كَى لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الاغنياء مِنكُمْ وَمَا ءاتاكم الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنْهُ فانتهوا واتقوا الله إِنَّ الله شَدِيدُ العقاب} [الحشر: 7].
قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص: {وَأُحِلَّ لَكُمْ} بضم الألف وقرأ الباقون بالنصب، فمن قرأ بالضم لأنه عطف على قوله: {حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ}.
ومن قرأ بالنصب لأنه نسق على قوله: {كتاب الله عَلَيْكُمْ}.
ثم قال تعالى: {أَن تَبْتَغُواْ بأموالكم} يعني أن تتزوجوا بأموالكم، ويقال: تشتروا بأموالكم الجواري {مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مسافحين} يقول: كونوا متعففين من الزنى غير زانين {فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ} قال مقاتل: يعني به المتعة، أي فما استمتعتم منهن إلى أجل مسمى {والمحصنات مِنَ} أي أعطوهن ما شرطتم لهن من المال؛ وإنما كانت إباحة المتعة في بعض المغازي، ثم نهي عن ذلك.
وروي عن ابن عباس أنه كان يقرأ: فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى.
وروى عطاء عن ابن عباس أنه قال: ما كانت المتعة إلا رحمة رحم الله بها هذه الأمة، ولولا نهي عمر عنها ما زنى إلا شقي.
وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: إنما رخص في المتعة في بعض المغازي، ثم نسختها آية الطلاق والميراث والعدة.
وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: {فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ} قال النكاح فآتوهن أجورهن، يعني مهورهن.
وقال في رواية الكلبي: {فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ} بعد النكاح فآتوهن أجورهن، أي مهورهن {فَرِيضَةً} لهن عليكم.
وقال الضحاك: فما استمتعتم به منهن أي فما تزوجتم بهن فأعطوهن مهورهن {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الفريضة} قال بعضهم: يعني المتعة قبل أن تنسخ، أجاز لهما أن يتراضيا على زيادة الأجل والمال.
وقال بعضهم: يعني المهر، لا جناح على الزوجين أن يتراضيا بعد النكاح على زيادة المهر {إِنَّ الله كَانَ عَلِيمًا} فيما رخّص لكم من نكاح الأجانب {حَكِيمًا} فيما حرم عليكم من ذوات المحارم. اهـ.

.من فوائد ابن عطية في الآية:

قال عليه الرحمة:
قوله عز وجل: {والمحصنات} عطف على المحرمات قبل، والتحصن: التمنع، يقال حصن المكان: إذا امتنع، ومنه الحصن، وحصنت المرأة: امتنعت بوجه من وجوه الامتناع، وأحصنت نفسها، وأحصنها غيرها، والإحصان تستعمله العرب في أربعة أشياء، وعلى ذلك تصرفت اللفظة في كتاب الله عز وجل، فتستعمله في الزواج، لأن ملك الزوجة منعة وحفظ، ويستعملون الإحصان في الحرية لأن الإماء كان عرفهن في الجاهلية الزنا، والحرة بخلاف ذلك، ألا ترى إلى قوله هند بنت عتبة للنبي عليه السلام، حين بايعته، وهل تزني الحرة؟ قالحرية منعة وحفظ، ويستعملون الإحصان في الإسلام لأنه حافظ، ومنه قول النبي عليه السلام «الإيمان قيد الفتك» ومنه قول الهذلي:
فَلَيْسَ كَعَهْدِ الدَّارِ يَا أمَّ مَالِكٍ ** ولكنْ أَحَاطَتْ بالرِّقابِ السَّلاسِلُ

ومنه قول الشاعر:
قالَتْ هَلُمَّ إلى الحَديثِ فَقُلْتُ لا ** يَأبى عَلَيْكِ اللَّهُ والإسْلامُ

ومنه قول سحيم:
كَفى الشَّيْبُ والإسْلامُ لِلْمَرْءِ نَاهِيا

ومنه قول أبي حية:
رَمَتْني وَسِتْرُ اللّهِ بيني وبينَها

فإن أحد الأقوال في الستر أنه أراد به الإسلام، ويستعملون الإحصان في العفة، لأنه إذا ارتبط بها إنسان وظهرت على شخص ما وتخلق بها، فهي منعة وحفظ، وحيثما وقعت اللفظة في القرآن فلا تجدها خرج عن هذه المعاني، لكنها قد تقوى فيها بعض هذه المعاني دون بعض، بحسب موضع وموضع، وسيأتي بيان ذلك في أماكنه إن شاء الله.
فقوله في هذه الآية {والمحصنات}، قال ابن عباس وأبو قلابة وابن زيد ومكحول والزهري وأبو سعيد الخدري: هن ذوات الأزواج، أي هن محرمات، إلا ما ملكت اليمين بالسبي، من أرض الحرب، فإن تلك حلال للذي تقع في سهمه، وإن كان لها زوج، وروى أبو سعيد الخدري: أن الآية نزلت بسبب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث جيشًا إلى أوطاس فلقوا عدوًا وأصابوا سببًا لهن أزواج من المشركين، فتأثم المسلمون من غشيانهن، فنزلت الآية مرخصة، وقال عبد الله بن مسعود وسعيد بن المسيب والحسن ابن أبي الحسن وأبيّ بن كعب وجابر بن عبد الله وابن عباس أيضًا: معنى {المحصنات} ذوات الأزواج، فهن حرام إلا أن يشترى الرجل الأمة ذات الزوج، فإن بيعها طلاقها، وهبتها طلاقها والصدقة بها طلاقها، وأن تعتق طلاقها، وأن تورث طلاقها، وتطليق الزوج طلاقها، وقال ابن مسعود: إذا بيعت الأمة ولها زوج فالمشتري أحقّ ببعضها، ومذهب مالك والشافعي وجمهور العلماء أن انتقال الملك في الأمة لا يكون طلاقًا، ولا طلاق لها إلا الطلاق، وقال قوم: {المحصنات} في هذه الآية العفائف، أي كل النساء حرام، وألبسهن اسم الإحصان، إذ الشرائع في أنفسها تقتضي ذلك، {إلا ما ملكت إيمانكم} قالوا: معناه بنكاح أو شراء، كل ذلك تحت ملك اليمين، قال بهذا القول أبو العالية وعبيدة السلماني وطاوس وسعيد بن جبير وعطاء، ورواه عبيده عن عمر رضي الله عنه، وقال ابن عباس: {المحصنات} العفائف من المسلمين ومن أهل الكتاب.